أعشق فيلم البوسطجى ولا أمل أبداً من مشاهدته وأكاد أحفظ مشاهده بالكادر. وأثناء عرضه الأخير على قناة التحرير لمع فى ذهنى سؤال استنكارى عن مدى فقدان الفن لكثير من عناصر تألقه بسبب مغازلة الرأى العام. الفيلم رائع، ولكن عقدة الفيلم فى قصة يحيى حقى الأصلية أكثر جمالاً وأعمق فنية وأروع تأثيراً وأكثر دلالة، السيناريست صبرى موسى بذل جهداً رائعاً حصل به على جائزة السيناريو، وأيضاً العبقرى حسين كمال أخرج لنا لوحة تشكيلية عن صعيد مصر جعلت فيلم البوسطجى من كلاسيكيات السينما المصرية التى ستظل محفورة فى ذاكرة الزمن والوطن، ولكن وبالرغم من ذلك التميز وتلك الروعة فإن الفيلم ابتعد عن عقدة القصة الملغومة، الفيلم حصر العقدة فى رفض الأب لمجرد غضبه من معرفة العريس للعروسة وكيف تعرف عليها بالرغم من أن نفس الأب أرسل ابنته للدراسة فى مدرسة بعيدة عن قرية كوم النحل وكان سعيداً بتخرجها، لكن عقدة القصة العبقرية التى وضعها يحيى حقى فى مجموعة دماء وطين كانت مختلفة تمام الاختلاف وعميقة تمام العمق، فالعريس مسيحى والعروس مسيحية ولكنهما مختلفان فى المذهب، هو بروتستانتى وهى أرثوذكسية، تلك هى العقدة الحقيقية وهى التى جعلت الأب يؤخر ويرفض زواج ابنته التى يتحرك الجنين فى أحشائها ويجسد الفضيحة أكثر ويضخمها أكثر، بالطبع خاف صناع الفيلم من المساس بهذه النقطة التى لها دلالة رهيبة عن مدى تحكم الخلاف المذهبى الدينى فى مشاعر وعقول البشر، وفقد الفيلم نقطة تألق كانت ستضيف إلى رصيده الفنى الكثير والكثير، أشار الفيلم سريعاً إلى مسألة المسيحية وليس المذهبية عندما ذهب العريس المنتظر وقال الوسيط أن عمه فلتس أعز أصدقائه، القصة المكتوبة كانت جدارية فنية رائعة عن المجتمع المسيحى فى الصعيد من خلال عائلة تاجر العسل ووضعه الاجتماعى داخل أغلبية مسلمة، لكن القصة السينمائية آثرت السلامة وابتعدت عن منطقة الألغام ففقدنا مزيداً من التألق لفيلم متألق أصلاً. الفن يكره القيود، ونحن لدينا الفنان ولدينا المبدع ولدينا العبقرى، ولكن لدينا أيضاً موانع تجعل المبدع نصف مبدع يتحدث بنصف لسان ويصور بنصف كاميرا.